وزير وطالب في موقفين أحدهما ذكرني بالآخر والرابط بينهما سيتجلى في المقال، أما الوزير فهو الديبلوماسي السعودي المثقف صاحب التجارب المتعددة الشاعر أستاذ القلم الذي يعرف كيف ينساب بالمعاني على السطور، إنه عاشق المتنبي حتى وصفه بعد أن اختاره ورفعه على المعري وشوقي فقال عنه في كتابه (سيرة شعرية):
هو الحضن الشعري الرؤوم الذي أعود إليه ولا أكاد أفارقه.
إنه الوزير الدكتور غازي القصيبي الذي قرأت وعرضت له بعض كتبه في برنامجي التلفزيوني ومقالاتي لكني اليوم أنقل هذا النص من كتابه (حياة في الإدارة) أضعه بين يدي أساتذة الجامعات وكل المشتغلين في العملية التربوية والتعليمية لعله أن يصيب قلوباً وأفئدة وأسماعاً تستفيد منه.
قال القصيبي:
«كانت علاقتي مع طلبتي من محاضرتي الأولى إلى محاضرتي الأخيرة قائمة على الكثير من الاحترام المتبادل والكثير من المودة المتبادلة. لم يكن أحد يرسب إلا أولئك الذين يصرّون على الرسوب. كنتُ بعد الانتهاء من تصحيح الأوراق أضيف 10 في المئة من درجة المادة إلى كل الذين يحتاجون هذه النسبة ليصلوا إلى الحد الأدنى المطلوب للنجاح. لم أكن أفعل هذا مدفوعاً بسخاء حاتمي. كنت أقوم به حرصاً على توخي العدالة. في العلوم الاجتماعية، بخلاف العلوم الطبيعية، لا توجد أمام المصحح خطوات محددة يستطيع أن يصحح الأوراق على أساسها بموضوعية تامة كما يصحح الكمبيوتر أسئلة الخيار المتعدد. يتأثر المصحح بالأسلوب وبالتنظيم وبالخط إلى درجة لا بد وأن تؤثر على حياده. كنت حريصاً على ألا يُظلم أحد بسبب ضغط الامتحان النفسى الذي قد يؤثر على عرض الأفكار وتنسيقها. وكنت حريصاً على ألا يُجازى أحد بسبب رداءة خطه. يُوجِد الخط الرديء في نفس المصحح شعوراً بالعداء نحو الطالب، أما الخط الذي لا يُقرأ فيولد رغبة لا شعورية بالانتقام. إن استغرابي لا ينتهي من مدّرسي العلوم الاجتماعية الذين يصرّون على رسوب طالب بسبب نقص درجة أو درجتين وكأنهم قد وزنوا الإجابة بموازين الذهب«.
سطور وافية سرد فيها الوزير المعلم خلاصة ما ينبغي أن تمليه ضمائر ومسؤوليات الأساتذة تجاه طلابهم.
المودة المتبادلة، الرسوب قرار يختاره الطالب وليس موقفاً من الأستاذ، دقة التفريق في تحقيق الموضوعية بين التخصصات الإنسانية والأدبية وبين التخصصات والموضوعات العلمية الجادة التي اصطلح على تسميتها بالجافة.
وأعجبني استغراب الوزير المعلم من تعسف بعض الأساتذة وبخلهم في منح طلبتهم الدرجات فيهدرون مستقبل طالب بسبب حرمانه من درجات ربما لا تزيد على عداد الكف الواحدة.
واليوم ونحن نمر بأوضاع علمية وإقليمية تفضي إلى مزيد من التصنيف والتحيزات قد ينعكس هذا حتى على أرقى المؤسسات الأكاديمية والثقافية.
فيا خسارة الأجيال ووا أسفاه على التضحية بقيم ومثل تحمينا جميعا من ويلات التعصبات.
ذكرني كلام الدكتور القصيبي رحمه الله عن المواقف العاطفية التي تسري في نفس الدكتور تجاه تقييم طلبته كخطوطهم القبيحة أو الغامضة وضرورة عدم تأثيرها على النتائج لتدوم العلاقة الودية المتبادلة بين الدكتور وطلابه، هذا الوعي بجب أن يشمل الجانب الآخر وهو الموقف الإيجابي تجاه الطالب وتأثيره على نتيجة درجاته وهو ما ذكرني بالموقف الثاني وبطله أحد طلبتي في مقرر الثقافة الإسلامية بكلية الدراسات التجارية حين دخل القاعة وأهداني زجاجة عسل، وقال أمام الطلبة»هذا عسل من مناحل بيتنا وطازج هدية لك». فشكرته وأنا أرفض قبولها ولكن كي لا أخسره برد الهدية قلت هاتها الدرس المقبل حيث أتيت ومعي ملاعق صغيرة بلاستيكية ومرت الزجاجة الجميلة بعسلها المُصفى على جميع الطلبة لكي يتذوق كل واحد منهم ملعقة!
لو استشعر كل واحد من المربين أن الطلبة أحد أرحامه أو أقاربه أو معارفه لكافأ وعاقب بعقلانية أكبر لتدوم العلاقات العسلية الطيبة.