مبحث الوجود، ومبحث المعرفة، ومبحث القيم، هذه المباحث الثلاثة هي أصول الفلسفة، فالأول يبحث في معنى الوجود وعلته وما وراءه… والثاني يبحث في العقل وكنهه وقدرته على إدراك الحقائق ومصادرها… أما الثالث فيهتم بدراسة المثل العليا أو القيم المطلقة التي هي الحق والخير والجمال، والذي يهمني في هذه العجالة هو المبحث الثاني (المعرفة) ليس لأنه الوسيلة التي ندرك بها مبحث الوجود ومن ثم تكون كالمقدمة والأدوات للمسألة الميتافيزيقية (ما وراء المادة)، والجدل حول وجود الخالق من عدمه كما يصنع الباحثون عن الحقيقة أو المتجادلون من المؤمنين والملحدين والشكاكين واللا أدريين… كلا… ليس لهذا السبب الوجيه وانما نتناول مبحث (المعرفة) لأنه متصل بمسألتنا التاريخية المتصلة بهويتنا الحضارية والدينية، وتسألني كيف يكون ذلك؟ فأقول لك لأن مبحث المعرفة يتناول في موضوعاته مصادر المعرفة وأدواتها، فهل هي عقلية أم تجريبية أم نقدية (أي تجمع بين الحس والعقل) أم حدسية مباشرة، ولا يعول الفلاسفة كثيراً على المعرفة الخبرية أو يغفلونها ويتركونها لعلم التاريخ، ونحن لو تأملنا أكثر معلوماتنا لوجدناها أخباراً وروايات ومنقولات، هل تؤمن بأن الأهرامات من بناء الفراعنة؟ وأن المتنبي من فحول شعراء العرب؟ وأن أرسطو أبرز فلاسفة اليونان وأن شكسبير أبرز روائي أوروبي أو انكليزي؟ أكيد ان هذه المعلومات يقينية لديك… فإذا سمعت من يعترض عليك قائلاً هذه معلومات لم أعاينها وأحداث لم أعشها وشخصيات لم أدركها فهي عبارة عن أساطير وخرافة! قطعاً ستشيح بوجهك عنه لأنه لا يستحق ان تناقشه. والسؤال كيف تحولت هذه المعلومات الغيبية إلى حقائق يقينية؟ الجواب لأن هناك علماً يسمى علم التاريخ علم نقل الأخبار، ولأن أحد مصادر معرفتنا هو النقل المتواتر بشروطه الذي يحقق لدينا الطمأنينة للأخبار، التي تنقل إلينا، لهذا وضع العلماء قاعدة منطقية في البحث العلمي تقول: «ان كنت ناقلاً فعليك بالصحة وان كنت مدعياً فعليك بالدليل»، فالعلم لا يخرج عن هذين الأمرين، خبر يحتاج إلى اثبات صحته ودعوى تحتاج إلى اثبات دليلها، وكلتا القضيتين بنى عليهما العلماء الغربيون والشرقيون القدماء والمعاصرون مناهج للبحث، وقضية فتن التاريخ التي نشأت في الصدر الأول من الإسلام اكتنفها كثير من الاغاليط والمرويات التي اختلط بها الصحيح الثابت بالحسن المقبول والضعيف والموضوع… ولقد لمست من خلال ردود الأفعال على حلقاتي وكتاباتي عن الإمام الحسين رضي الله عنه، أثر ركام التاريخ على نفوس وعقول وتصورات الناس، واكتشفت كما ان هناك من آمن قديماً بخرافة أن يزيد بن معاوية كان نبياً (كما ذكر ابن تيمية في كتابه مناهج السنة النبوية) كذلك يوجد من آمن وصدق بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسر ضلع خير نساء العالمين فاطمة الزهراء رضي الله عنها بعد موت أبيها، أساطير في أساطير… وللحديث بقية نربط فيها ما كتبناه عن فتوى ابن باز رحمه الله بما سنقول من قناعة صريحة.
د.محمد العوضي