في عام 1988 سألت المفكر محمد قطب في مكة المكرمة قائلاً، مازلت تدرس عرض ونقد نظريات التطور لدارون الإنكليزي صاحب كتاب «أصل الأنواع» الذي أصدره عام 1859 والنظرية الماركسية ونظرية التحليل النفسي لفرويد ونظرية عالم الاجتماع الفرنسي اليهودي دوركايم الذي تتمحور فكرته ان الكائن البشري محكوم «بنزعة القطيع» التي تحكم عالم الحيوان وتسيره دون وعي منه ولا ارادة… إلى آخر النظريات التي يغلب عليها الطابع الجبري الاقتصادي او النفسي او الاجتماعي للسلوك الإنساني.
كان استفهامي من محمد قطب أنك يا استاذنا تدرس تحليلاً ونقداً لنظريات هدم أصولها وزعزع أساساتها الغرب نفسه بعلمائه وفلاسفته… وبعضها سقط بالضربة العلمية القاضية وبعضها بذل المتعصبون لها جهوداً في انقاذها بالتفريع عليها او بتطوير تفسيرها… وعالم اليوم تغير جداً برؤيته للإنسان من خلال نظريات ناسخة لتلك التي تدرسها يا استاذنا.
فقال لي قطب جملة قصيرة لا أزال أذكرها لأن الشواهد اليومية في عالم الثقاقة المقروءة والمسموعة تؤكده. قال قطب: صحيح ان الغرب عدل على هذه النظريات بل وجه لها سهاما نقدية في مقتل وتجاوز أكثرها… ولكن هذا كما قلت في الغرب هناك في البيئات الثقافية والفكرية التي ولدت هذه النظريات فيها وترعرعت وأثرت في نسيج الحياة الاجتماعية وقبل ذلك في منظومة الأفكار والعقائد لديهم. ونحن ندرسها عندنا لأن عالمنا العربي كما هو متخلف في استيراد مذاهب الغرب المادية والالحادية، كذلك هو متخلف في هجرها لأنه متخلف في استيعابها. متخلف حتى في علمانيته!!
لقد كان لكتاب دارون في ارجاع الأصل الإنساني إلى القردة العليا أثر هائل في الفكر الإنساني كما ذكر روبرت داونز في كتابه «كتب غيرت وجه العالم» ترجمة صادق وزميله، ولقد كان لمفكري وعلماء وأدباء وفلاسفة العالم الإسلامي جدل طويل حول نظريته ومدى صدقها للعلم من جهة وللقرآن من جهة اخرى، واليوم أسدل الستار على هذه النظرية وتدرس لا على أنها حقيقة علمية وانما على أنها من تاريخ النظريات.
بيد أن الأمر الذي لا ينبغي ان نتجاهله هو البعد الاجتماعي والإنساني لهذه النظرية حتى لو قلنا مع عباس العقاد في كتابه عقائد المفكرين في القرن العشرين، ونديم الجسر في كتابه قصة الايمان بالعلم والفلسفة والقرآن من ان هذه النظرية لا تتعارض مع جوهر عقيدة الخلق في الإسلام او الأديان. أي ان الخطورة تكمن في نزع مكانة الإنسان من الكون واعتباره مجرد حيوان أكثر تطوراً من غيره من البهائم وانعكاس ذلك على رؤيته لنفسه ولقيمه وللعالم من حوله ومن ثم لوظيفته للحياة وموقفه من الأحياء بمن في ذلك أخوه الإنسان. وهذا ماركز عليه محمد قطب في سائر كتاباته. ويعتبر المفكر عبدالوهاب المسيري الداروينية الاجتماعية (Darwinism) هي النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة، إن لم يكن كلها، ويرصد ويحلل اتساع حلقات المادية الداروينية التي تمثل مظهراً للعلمانية الشاملة الملحدة إلى ان يصل بداية مشروع القرد الأعظم في لندن يوم 14 يونيه 1993 وقد بدأ بمقال في مجلة التايمز في 7 يونيه كتبه استاذ من جامعة برنتسون يسمى آلان ريان Alan Ryan هل للقردة العليا حقوق، والقصة ليست حول حقوق الحيوان ولكن النزول بالإنسان لأن هؤلاء القوم العلمانيين دعوا إلى تصنيف الإنسان على أنه نوع ثالث من أنواع الشمبانزي، وطالبوا بتأسيس جماعة مشتركة تضم: البشر – الشمبانزي – الغوريلا – والأورنج أوتاج، وأصدروا إعلان القردة العليا على غرار إعلان حقوق الإنسان. أبطال هذه الأفكار ريتشارد دوكنز Richard Dawkins استاذ علم الأحياء في جامعة اكسفورد. وعالمة الانثروبولوجيا الهولندية بربارة نوسكي Barbara Noske وقالت الهدف من هذا الإعلان «فك التمركز حول الإنسان»… أتريد معرفة الرؤية المتسلسلة للفكر المادي العلماني الذي يزداد تطرفاً إلى ان ينتج لنا القرد العلماني الأعظم انظر كتاب «الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان» للدكتور عبدالوهاب المسيري – نشر دار الفكر بدمشق.