في خطاب له للبرلمان الإنكليزي يوم 2 فبراير 1835م، قال اللورد توماس ماكولي مهندس سياسة التعليم الإنكليزية للشعوب المستعمرة:
«لقد سافرت في الهند طولاً وعرضاً ولم أرَ شخصاً واحداً يتسول أو يسرق، لقد وجدت هذا البلد ثرياً إلى درجة كبيرة، ويتمتع أهله بقيم أخلاقية عالية، ودرجة متطورة من الرقي، حتى أننا لن نهزم هذه الأمة إلا بكسر عمودها الفقري، وهو تراثها الروحي والثقافي.
لذا أقترح أن يأتي نظام تعليمي جديد ليحل محل النظام القديم، لأنه لو بدأ الهنود يعتقدون أن كل ما هو أجنبي وانكليزي جيد وأفضل مما هو محلي، فإنهم سيفقدون احترامهم لأنفسهم وثقافتهم المحلية، وسيصبحون ما نريدهم أن يكونوا عليه، أمة يُمكن الهيمنة عليها تماما».
هذا النص الذي يأتي في صورة وثيقة يورده كل مَنْ يتناول صراع الحضارات والاستعمار وإرادة الهيمنة وصلة الهوية بالخصوصية والتعايش والمقاومة.
لذا نجد أن مؤلف كتاب «أميركا والإبادات الثقافية» يذكر شطراً منه في صدر كتابه بينما يورده كاملاً صاحب كتاب «نحو حداثة إنسانية جديدة» والنص يلخص لنا الرؤية الكلية الظاهرة والباطنة للحضارة الغربية تجاه الآخر أو الأغيار.
الهيمنة والاستعمار من خلال إضعاف الدول والكيانات ابتداء بتدمير الثقة بالذات الفردية والجماعية وامتدادها التاريخي وهذا لا يتأتى إلا بحرب الهوية وإبطال فاعليتها الإيجابية عبر ثنائية الازدراء بالمكون المعرفي الحضاري للأمة والإكبار والإعجاب والانبهار ببضاعة المستعمر في مفاهيمه الخاصة عن الإنسان والحياة والمستقبل والتقدم والتأخر والحسن والقبيح.
وقد أراحنا خطاب ماكولاي عن الاجتهاد في البحث عن وسائل تحطيم الذات وتغريبها وكسر عمودها الفقري ودمج المجتمعات المستهدفة أو إلحاقها بالدولة المستعمرة.
فرسم سياسات تعليمية استعمارية لهذه الأمم كفيل بتحقيق النجاحات الباهرة.
كان محتوى خطاب هذا المستعمر البريطاني منطلقاً لحواراتي في لقاءات عدة سواء في مؤتمرات أو جلسات نقاش كما حصل الأسبوع الماضي في ملتقى الشباب المسلم الأوروبي وأيضا مع الطلبة العرب والجالية المسلمة في محاضراتي باسطنبول.
خلاصة القول ما لم تكن الفكرة واضحة عن نظرة الغرب واستراتيجيته تجاهنا وما يريده منا وبنا فإننا سنتخبط كثيراً فالتصورات تسبق التصرفات، ومن المفارقات أن تجد إنساناً متواضعاً في ثقافته ومهنته لكنه بصير بحقيقة أهداف النظام العالمي وعموم المنظومات الغربية السياسية تجاه أمته بينما تجد من أصحاب الشهادات العلمية الرفيعة مَنْ يحتال على نفسه بالهروب بتأويلات وهمية عن الاعتراف بحقيقة كسر عمودنا الفقري الجمعي وإدراكها.
إننا في حاجة إلى الإنسان الذي يملك وعياً مستنيراً كلياً، وإن كان متواضعاً في معلوماته ووظيفته أكثر من حاجتنا إلى الإنسان الأكاديمي الذي لديه تخصصات «عميقة»، لكنه معطل الوعي من أن المستعمر انتقل من كسر عمود أمته الفقري إلى تفتيته وذره في مهب الرياح !!