كي لا يذهب القراء بعيداً في تأويل عنوان المقال فإن جل ما أسطره هنا هو ما كتبته في مقدمة كتاب «فيزياء الكوانتم حقيقة أم خيال»؟ تأليف أليستر راي، والذي تم التعاون على إخراجه بين (رواسخ) مع مركز (براهين).
والموضوع ذو صلة مزدوجة بين العلم وفلسفة العلوم وعلاقة ذلك بالميتافيزيقا.
فإن اختلاط الخيال الجامح بالعلم سمة بارزة لما يستورده المثقف العربي في تعاطيه مع بعض المعارف في العلوم البحتة.
ففي الوقت الذي يحدثك جمع من الشباب العربي باندفاع ويقين عن نتائج فيزياء الكوانتم نجد مؤلف الكتاب يقرر في مقدمة كتابه بأنه «لم يقع اتفاق أو إجماع في هذا المجال بوجه عام»، ويقصد مشكلتي «القياس» و«اللامحلية».
ويعود الكاتب في الفصل الأخير الذي عنونه بـ حقيقة أم خيال ليؤكد: «لا توجد إجابة عن مشكلات فيزياء الكوانتم تحظى باتفاق عام»!!
ورغم ذلك نقول لهذا المثقف أو ذاك ممن سحرتهم هذه النظرية (الكوانتم) تذكروا حماس أسلافكم من مثقفي العرب علماء الطبيعة الفيزيائيين بالذات والذين كان معظمهم كما يقول «أليستر راي» نصاً:
«يعتقدون أنه لا مزيد من القوانين الأساسية، واعتقدوا أن الكون محكوم بقوانين حتمية ثم أطاحت الثورة العلمية الجديدة خلال الثلاثين عاماً الأولى من القرن العشرين بهاتين الفكرتين»!!
فيقين المتعجلين من مثقفينا بالحتمية القديمة التي وظفوها ضد الإيمان ثم هدمها العلم اليوم يذكرني بشطحات مثقفينا المؤدلجين ضد الدين بتبني نفي قانون السببية متذرعين بنظرية الكوانتم!!
هذه الخرافات التي يخلع عليها ثوب العلم تجعلنا نقول:
لمَّا كان العلم قوَّة كانت أعلى مظاهر الحضارة منابر العلم، فاستغلَّ ذلك الداعون لأيديولوجيَّاتهم بصنع منابر مزخرفة بالتَّظاهر والتعالي.
فأدخل هؤلاء الفيزياء في معركة الفلسفة، مع أنَّ الفيزياء علم لم يحسم كلمته النهائية بعد في قضايا كثيرة، فإنَّ الفيزياء المعاصرة كلَّها وصلت من عقود إلى حدود غير مرئيَّة تُذهل العلماء إلى الآن فيما لا يقتدرون على تفسيره.
ومع أنَّ مجال الفلسفة أوسع من ضيق التَّجارب وما نصل إليه من علاقات فيزيائيَّة تحقيقاً أو فرضاً.
والملاحظ أنَّ من الفيزيائيِّين من يخوض في تفسير وجود العالم بناء على نظر فيزيائيٍّ منقطع عن النَظر المنطقيِّ، لقلة اكتراث أو لعدم التَّصديق بالحقيقة المنطقيَّة! مع أنَّ ثبوت الفيزياء فرع ثبوت المنطق، فإنَّ أيَّ علاقة فيزيائيَّة لا تكون صحيحة إلا بثبوت طرفيها وثبوت النسبة بينهما، فلو اختلَّ الحكم المنطقيُّ اختلَّت العلاقة الفيزيائيَّة نفسها.
وليت المشكلة في الفيزياء منحصرة في اختلاف التفسير، بل هي قد أُقحمت في تدعيم نظريات بل فرضيّات للوصول إلى أهداف معيَّنة واضحة، فلا تكون الفيزياء مطلوبة لرفع العلميَّة الإنسانيَّة، بل تكون مطيَّة براغماتيَّة لتحقيق مصالح ذاتية لبعض النَّاس.
وللأسف الشديد فإنَّ الواقع في هذا العصر يشهد دعماً كبيراً لأيديولوجيا الإلحاد بدعاية هائلة، فتجعل هذه الأيديولوجيا كأنَّها هي العلميَّة الوحيدة، وأنَّ كلَّ ما يخالفها لا يستحقُّ أن يُنظر إليه.
وإنَّ من توابع هذا المناخ المغشوش دعائيّاً في منطقتنا العربيَّة اهتزاز ثقة الإنسان بعلمه ودينه في مقابل تلك الموجة الكبيرة الظاهرة باسم العلم، فيكون لسان حال الكثيرين من المفتونين يقول: «هم أعلم بالعلوم الطَّبيعيَّة، فهم أقدر على الوصول إلى الحقائق المعرفيَّة والوجوديَّة». فيقع الفارغ في حبالهم جهلاً بطريقتهم ظالماً لنفسه. وهو ذات الإِشكال المنطقي المغلوط الذي لاحظه أبو حامد الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» عند فلاسفة المسلمين المتأثرين بالفلسفة اليونانية وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا.
فلذلك يجب على من نظره نصرٌ للحقِّ أن يتعاون مع غيره في بيان الصحيح من الزائف ممَّا يُسمَّى علماً، وما يكون له مدخل في النَّظر الفلسفيِّ وما لا يكون.
وما يكون من باب إحقاق حكم أو جهل بحكم.
وهذه مهمتنا جميعاً، مهمة مجابهة الجهل الذي يظهر علماً بالعلم الحقيقيِّ، لا بمعطيات فيزيائيَّة فقط، بل بنظر منطقيٍّ عقلانيِّ صحيح تكون مادَّته العلوم الفيزيائيَّة ليخوض فيها ويفسرها تفسيراً منطقياً صحيحاً ويبني عليها للتقدُّم بالبشريَّة.
وقد يسأل سائل وهو محق:
وما دخل المثقف غير المختص بالعلوم البحتة في هذه المضائق سواء كان مع أو ضد هذه النظرية وتلك.
والجواب: إننا نرصد المشكلات الفلسفية والفكرية التي تستنتج من هذه النظريات والمتصلة بالأسئلة الوجودية الكبرى وعلاقتها بتصوراتنا فيما يخص الكون والإنسان والحياة لنحررها من الخيالات والأوهام التي استبدت بعقول بعض المندفعين من أبنائنا.