تفاعلاً مع مقالي السابق في جريدة «الراي» المعنون بـ (أستاذ العلوم الجامعي… يمدح عالماً ملحداً غربياً!) والمنشور بتاريخ 28 يناير الماضي، والذي تناولت فيه رؤية أستاذ الفيزياء الكونية بجامعة اليرموك بالأردن الدكتور محمد باسل الطائي لاطروحات الفيزيائي ستيفن هوكنج وموقفه من شخصه وفكره، فقد كتب الطائي هذه المقالة المركزة وحاول التبسيط قدر الامكان لينتفع المثقف غير المتخصص وإليكم المقال بعنوان: (لماذا يلحد علماء الطبيعيات الغربيون؟) :
سأحاول في هذا المقال بيان أهم الاسباب والدوافع التي تجعل بعض علماء الطبيعة في اوروبا واميركا الشمالية ينكرون وجود خالق لهذا الكون، وينفون تدخل أي قوة غير مادية في التأثير في هذا العالم.
فمن المعروف ان للالحاد في اوروبا تاريخا طويلا يمتد الى اوائل تشكل البنية الفلسفية على عهد اليونان لكنني لن ادخل هنا في الجانب التاريخي اختصاراً للوقت، انما اريد عرض خلاصات مهمة وجدتها من خلال خبرتي مع هؤلاء العلماء وما قرأته من اعمالهم على مدى ما يقرب من اربعين سنة، ولكي يكون المصطلح واضحا منذ البداية اؤكد ان ما نقصده بقوانين الطبيعة LAWS OF NATURE هو الظواهر التي نشهدها تحصل في العالم على نحو تكراري مثلا سقوط الاشياء من ايدينا نحو الأرض حالما نتركها أما تشخيص العوامل الداخلة في تلك الظواهر فهو تفسيرها النظري ومن ذلك التفسير يمكن استنباط صياغات رياضية نسميها قوانين الفيزياء laws of physecs فالحجر الذي نتركه من يدنا يسقط على الارض حالا وهذا هو قانون طبيعي، لكن قولنا انه سقط بفعل وجود كتلة للحجر وبوجود كتلة للأرض هو تشخيص المتغيرات الفيزيائية التي تدخل في قانون فيزيائي مثل قانون نيوتن في الجاذبية ومع ان القانون الطبيعي صحيح دوما الا ان القانون الفيزيائي لا يشترط ان يكون صحيحا. فقانون نيوتن منسوخ بقانون اينشتاين في الجاذبية ونظرية نيوتن في تفسير الجاذبية لم تعد صحيحة بعد ظهور نظرية اينشتاين في النسبية العامة. وهكذا بينما تكون قوانين الطبيعة ثابتة تكون قوانين الفيزياء متبدلة ومتطورة وربما تنسخ نظرية بأخرى افضل منها.
فيما أرى فإن السبب الاول في إنكار المنكرين من علماء الطبيعة الغربيين دور الخالق في العالم هو سوء الفهم الحاصل لديهم عما يسمى قوانين الطبيعة حيث يعتقد بعضهم وربما كثير من الناس في الغرب ان قوانين الطبيعة تفعل الحوادث الناتجة عنها بذاتها حال توافر مستلزمات وشروط الظاهرة اي ان القوانين تفعل فعلها بالطبع ولا تحتاج الى من يفعلها لهذا الغرض، وهذا هو مجرد افتراض لا دليل عليه ولم يتمكن احد من اثباته علميا ولا فلسفيا وخلال عصر النهضة ناقش هذه المسألة فلاسفة كبار في مقدمهم الفيلسوف الشهير ديفيد هيوم (1711 – 1776) وحاليا تناقش هذه المسألة استاذة فلسفة العلم البروفيسور نانسي كارترايت في كتابها وابحاثها اذ ترفض الفعل الذاتي للقانون الطبيعي وترى ان هذه الفرضية غير صحيحة بل تقول ان وجود قوانين طبيعية مرهون بوجود الله وتطرح اسئلة مهمة في شأن اشتغال ما يسمى القوانين الطبيعية دون ان نجد احدا يجيب عنها اجابات مقنعة والحق ان فرضية الفعل الذاتي للقانون الطبيعي وعدم حاجته الى مشغل كان قد طرحها في العصر الحديث الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز (1588 – 1679) وتبعه فلاسفة آخرون مخالفا بذلك ما كان رينيه ديكارت (1596 – 1650) يراه من دور لله في قوانين الطبيعية. ثم جاء بيير لابلاس الفرنسي (1749 – 1827) الذي اكد عدم حاجة الطبيعة الى تدخل الله في العالم حين سأله نابليون بونابرت عن سبب عدم ذكره لله في كتابه (ميكانيك السماوات) فقال: سيدي ان هذه الفرضية لم اجد لها حاجة لتدبير حركة السماوات لكن نظرية الكوانتم وتطبيقاتها ومئات التجارب المختبرية كشفت لنا عن حقيقة ان نتائج اشتغال قوانين الطبيعة اي الظواهر الطبيعية احتمالية جوازية وليست حتمية بمعنى ان الظواهر الطبيعية ممكن ان تقع ويمكن ألا تقع، وما نشاهده من وقوع الظواهر عند توافر اسبابها هو ليس امرا واجبا بل لكون وقوعها يتمتع باحتمال عال جدا ما يبدو وكأنها حتمية الوقوع لكن هذا غير صحيح من الناحية النظرية، فالظواهر جائزة الوقوع وليست حتمية الوقوع، ان تساؤل ستيفن هوكنج في كتابه الشهير (موجز تاريخ الزمن) عن اي دور للخالق قام على اثبات ان للكون وجودا لانهائيا في زمن خيالي imaginnry time وهذا ينطوي على مخاتلة لا يعرفها الا المتخصصون وهي ان الزمن الخيالي هو زمن غير فيزيائي بالتالي فلا وجود فيزيائيا للكون إلا بعد خلقه فيزيائيا. بالتالي فإن الاستفهام الاستنكاري لهوكنج مردود، من جانب آخر فإن ادعاء هوكنج في كتابه (التصميم الاعظم) ان الجاذبية هي المتسببة في خلق الكون من عدم ينطوي على مخاتلة اخرى وهي ان الخلق من عدم بقوة الجاذبية ممكن، لكننا عندئذ نحتاج الى مجال جاذبي شديد وقرب الثقوب السود تتخلق الجسيمات من العدم لوجود المجال الجاذبي الشديد فمن اوجد الجاذبية اللازمة في بدء الخلق لتحويل اللاشيء الى شيء؟ السؤال نفسه موجه الى لورنس كراوس الذي يصر في كتابه (شيء من لا شيء) على ان الخلق من عدم ينفي دور الإله الخالق ومن الغريب ان اسلاف هؤلاء الملحدين من علماء الفيزياء والفلاسفة كانوا في القرن التاسع عشر وما قبله ينكرون الخلق من عدم ويرفضونه بقولهم (اللاشيء يعطي لاشيء) ويجدون ان لا وجود للخالق لأن الخلق لم يحصل من عدم بزعمهم في ذلك الوقت، اما وقد كشف علم الكونيات عن غير ذلك فقد انقلبوا على ما كانوا عليه.
السبب الثاني: في إلحاد بعض علماء الطبيعة انهم يتصورن ان الكون الذي يديره إله ينبغي ان يكون عشوائيا فمثلا نجد ان عالم الفيزياء ستيفن واينبرغ يقول انه على استعداد للإيمان بوجود خالق فيما لو ظهر سيف من نار يأتي ليقطع رأسه. وهذا طلب لمعجزة، كذلك يقول لورنس كراوس انه مستعد للايمان، بوجود خالق لو انه وجد في الليل ان النجوم قد اصطفت لتؤلف جملة تقول: انا هنا وهذا ايضا طلب لحصول معجزة. وقد كان قبلهم من المشركين من طلب مثل ذلك من الرسول «وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعاً * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً *أو تُسقط السماء كما زعمت علينا كِسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنتُ إلا بشراً رسولاً» (الإسراء 90- 93) وهذه الطلبات تتم عن حقيقة ماثلة في تفكير هؤلاء وهي ان العالم يتحرك بالمعجزات وليس بقوانين. ومرة اخرى لا يوجد اي دليل عقلي على صحة هذا الشيء بل الله تعالى يقول انه: «خلقَ السماوات والارض بالحق» (النحل:3)…وبالحق معناها بقانون،فالكون يسير وفق سنن أي قواعد وقوانين بأمر خالقه في كل آن.
السبب الثالث: وهو حيرة بعض العلماء في تصوراتهم عن الإله الشخصاني الذي يتمتع بصفات بشرية كالحب والكره والغضب والفرح والحقد والمكر وبقية الصفات المجسدة وهذا الإله يعذب ويكافئ، وهذه المسألة عانى منها ألبرت أينشتاين على وجه الخصوص فلجأ إلى فكرة الإله الكوني التي كان قد طرحها الفيلسوف سيبنوزا (1632-1677) وهي التي تقول ان الله هو جملة النظام الكوني وهذه الفكرة مردودة لانها تجعل الله هو الكون كله ومن الناحية الفيزيائية فانها تجعل الإله نفسه جملة طبيعية تحتاج الى تشغيل وحقيقة الامر ان الله «ليس كمثله شيء» وما جاءت الصفات الا تعبيراً يقصد به تقريب الحقيقة الى العقول، فهي امثال ضربها الله لنا لنتأمل ونتفكر في خلقه وليس في ذاته فليس في قدرة العقل التفكر في ذاته على الوجه المحقق قطعاً «وما قدروا الله حق قدره».
السبب الرابع: حيرة بعض العلماء في مشكلة وجود الشر والمرض والعدوان في العالم اذ يقولون لو كان من اله حكيم رؤوف رحيم في هذا العالم لما وجدناه يغرق بالشر والامراض والقتل والعدوان علما ان هذه المسألة كانت واضحة حتى للملائكة الذين شهدوا خلق ادم عندما قالوا «أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلمُ ما لا تعلمون» (البقرة: 30)
ذلك ان من يتأمل مسألة الخير والشر يجد ان سحب ارادة الشر من الانسان تماما وجعله معصوما سوف يحجم حريته ويحوله ملاكا وهذا ليس من غاية الخلق فالانسان خلق ومعه امكانية فعل الشر وفعل الخير لكي يبتليه خالقه أيعمل خيراً ام شراً؟
ان اغلب علماء الطبيعة لا ينكرون وجود خلق لكنهم لايجدون سبيلا لتدخل الله في العالم وذلك للاسباب التي ذكرتها واهمها اعتقادهم ان القانون الطبيعي لا يحتاج الى مشغل وهذا ما يفسر ايضا لجوء بعض علماء الطبيعية الى انكار نتائج الميكانيك الكوانتي ومحاولاتهم البحث عن بدائل ومنها محاولات الفيزيائي ديفيد بوم (1917 – 1992) الذي وضع نظريات حاول من خلالها ان يثبت الطبيعة الحتمية للعالم لكن محاولاته لم تزل غير مقبولة من اغلب الفيزيائيين، ولم يتمكن احد من توظيفها لإيجاد شيء جديد، فنظريات بوم الحتمية بائرة وغير مجدية على ما يبدو، ولا اعني بالضرورة صحة التفسير الكوانتي التقليدي (مدرسة كوبنهاجن) فهنالك ايضا التفسير الكلامي الاسلامي القائم على تجدد الخلق والذي طرحت مبادئه في الاوساط العلمية أخيرا.
السبب الخامس: فيما ارى هو سبب نفسي يدفع الانسان الى محاربة فكرة وجود خالق وهذا مما يلقيه الشيطان في نفوس المستكبرين «إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه» (غافر: 56) ويقع في هذا الصنف الملحد البريطاني ريتشارد دوكنز وسام هاريس وكريستوفر فيتشنز.
ومن الضروري الاشارة هنا الى ان الخطاب الديني التقليدي لن يجدي كثيرا في مواجهة الإلحاد في وقتنا هذا وكذلك الحال مع الخطاب الكلامي القديم لأن السيف يقرع بالسيف، والعلم يقرع بالعلم وبالتالي فإن من الضروري العمل على مواجهة المد الالحادي بالعلم الصحيح الذي يتقنه العلماء المختصون، فالمتحدثون على منابر الالحاد علماء مختصون ليسوا وعاظا على جلال قدر الوعظ وفائدته.
من جانب آخر، فإن التلفيق والمخاتلة لا يجدي في المواجهة مهما خلصت النية بل مقارعة الباطل بالحق وبالحجة البالغة… والله ولي التوفيق.
• كل الشكر للدكتور محمد باسل الطائي على هذه الافادة وقد تم الاتفاق على ان يشاركنا مستقبلا بمقالات متفرقة حول قضية العلم الطبيعي وعلاقته بنظرية المعرفة والإيمان.