كعادة المشاعر التي تهزها الذكريات وتوقظها من سباتها المناسبات، كان هذا العيد مناسبة لإشعال نار الحزن في نفوس الغرباء والألم والحسرة في قلوب المشردين.
لطالما تحدثنا عن مشاعر الحزن في الغربة لأولئك الذين تركوا أهليهم وديارهم وأوطانهم طواعية، إما بحثاً عن مصدر رزق أو طلباً للعلم أو رغبة في العلاج أو غير ذلك من أسباب السفر والغربة.
وفي المناسبات الدينية التي اعتاد فيها الناس على اجتماع العائلة والالتفاف حول بعضهم البعض يتسامرون ويشيعون روح الفرح والبهجة والأنس، مثل عيد الفطر وعيد الأضحى، يعيش الغريب حالاً من الحزن يلف كيانه، وكأن هذه المناسبات تتحول إلى وقود تُشعَل فيه نار الذكريات الجميلة لتحرق ما تبقى لدى الغريب من أمل بلقاء قريب يجمعه بمن يحب من أم أو أب أو أخوة وزوجة وأبناء.
الغريب في حال غربته يعيش ألماً مشاعرياً لا يوازيه ألم… فنهاره ثقيل وليله طويل وإجازته الأسبوعية تتحول إلى عقوبة مغلظة بسبب الفراغ الذي يدفعه لاستذكار أيامه الجميلة مع أهله وموطن ولادته وتربيته وبدء حياته… هكذا يخبرني من التقيت بهم من أهلنا الوافدين المقيمين في الكويت أو من أخوتنا الذين التقيهم في دول عدة خارج محيطنا العربي.
ولئن كانت هذه مشاعر المغتربين طواعية، فكيف هي مشاعر المشردين في أصقاع الأرض من أهلنا البورميين والسوريين والعراقيين والفلسطينيين واليمنيين والصوماليين وغيرهم…؟!
إنه الشعور بفقدان الأمان النفسي وضياع بوصلة الأهداف والتسابق نحو بصيص من أمل وإن كان كاذباً.
كيف لي أن أصف مشاعر اخواننا المشردين في مخيمات البؤس وكانتونات الإذلال ومقار إقامة الاستغلال والمتاجرة؟!
كيف لي أن أستشعر معاناة تلك الأسرة التي فقدت عائلها أو ماتت أمهم أو تقطعت أوصال أبنائهم؟!
كيف يستشعر معاني عيد الأضحى أولئك المسلمون الذين «ضحّى» الساسة بأرواحهم ومستقبلهم، بل وحتى أحلامهم البسيطة، بالعيش الآمن والسكن البسيط الوادع؟!
كيف نريد منهم أن يبتهجوا بالعيد وهم يرونه سبباً آخر لمعاناة أبنائهم ورافداً جديداً لهمومهم… الأسرة التي تسكن خيمة أو تلتحف السماء كيف لعائلها أن يبهج أبناءه وهو لا يملك قيمة ثياب عيد ولا حلوى عيد ولا حتى أن يمنعهم من الحزن لأنهم مشردون؟!
كنا نتألم لحال الوافد الغريب في العيد، فماذا عسانا أن نقول في حق المشردين بهذا العيد؟!
أرواحنا يعتصرها الألم وقلوبنا يكتنفها الحزن ونفوسنا يلفها القهر لحال أخوتنا المسلمين في كل بقاع الأرض… فحال البؤس والضعف والتشرذم الذي نعيشه اليوم يحرمنا من الشعور باكتمال معنى العيد وفرحته وبهجته.
فلا تلوموا الغرباء والمشردين إن قالوا لكم إنهم يشعرون أن العيد بمفهومه الاجتماعي يمر عليهم بلا معاني العيد ومقاصده، وأن ألم التشرد والغربة أعظم من بهجة العيد في نفوسهم.
وحتى نحقق مفهوم العبودية الحقة لله تعالى، فلا يجوز لنا أن نغفل عن واجب مواساتهم ومساندتهم بالعطاء المالي أو الحث على مناصرتهم بكل ما نستطيع، وأقل ما نملكه، الدعاء لهم أن يفرج الله عنهم كرباتهم ويعيدهم إلى أوطانهم وأهليهم سالمين مكللين برضوان الله ورحمته، ويجب أن تصل لهم مبادراتنا حتى ندخل البهجة إلى نفوسهم حين يستشعرون أنهم جزء من أمة لا تنسى أبناءها، تتألم لألمهم وتسعد لفرحهم.
أوصلوا لهم أننا على نهج الرحمة المهداة محمد صلى الله عليه وسلم في تلمس حاجات المسلمين حيثما كانوا وليسامحونا على تقصيرنا وليغفروا لنا زلاتنا، فإن الألم أكبر من أن تخففه عطاءاتنا مهما بلغت.
ولنحمد الله تعالى أن رزقنا الأمن والأمان والطمأنينة، ولِنَدعُه دائماً ألا يحرمنا فضله وألا يغير علينا الحال إلا لأحسنه وألا يكشف عنا نعيم ما نعيشه وأن يؤلف بين قلوبنا ويكفينا شر كل ذي شر وأن يحفظ بلاد المسلمين أجمعين.