في كتابه «دراسات معرفية في الحداثة الغربية» وتحت عنوان «الثقافة الشعبية في مصر والانفصال عن القيمة» كتب المفكر عبدالوهاب المسيري، الأكثر حضوراً على الساحة الثقافية العامة بين المفكرين في عالمنا العربي، يقول: «كلما فكرت في ان اكتب مقالاً عن بعض الأغاني او المسلسلات التلفزيونية او الأفلام يسألني الكثيرون لماذا أفعل ذلك؟ فهذا لا يليق بمفكر مثلي يدعي انه مفكر عربي اسلامي، وينصحوني مخلصين ألا أفعل! والنصيحة وجيهة من بعض النواحي فالتخصص دون شك أمر مطلوب، كما يجب ألا يسف الكاتب فيعالج ما هب ودب من موضوعات قد تعن او تعرض له. ولكن الثقافة الشعبية اليومية موضوع حيوي للغاية يمس حياتنا بشكل دائم ومباشر، فالغالبية الساحقة من الناس تتلقى ثقافتها من التلفزيون او السينما او المجلات الأسبوعية المصورة، وفي تصوري أننا اذا لم نخضع هذه الوسائل الإعلامية التثقيفية للتقييم والتمحيص الدائمين فإننا نكون قد خسرنا معركة الثقافة الشعبية دون دخولها، ونكون قد تركنا الذوق الشعبي يشكله ويعبث به من يشاء من تجار الفن ووكلاء الفنانين والبيروقراطيين الذين لا روح لهم، وحيث ان موضوع الثقافة الشعبية لا يندرج تحت أي تخصص محدد، بل لا بد ان يظل مجالاً مفتوحاً يسهم فيه كل المهتمين بحاضر بلدهم ومستقبله وبنوعية الحياة فيه، وجدت انه قد يكون من المفيد ان نعرض بالتحليل من آونة لأخرى لأعمال فنية شعبية تحرز شيوعا ملحوظاً لفترة زمنية ما. ان الثقافة الشعبية تحدد ادراك الملايين للعالم ولأنفسهم ولوظيفة الجسد والجنس (وهي أمور من صميم وجودنا الإنساني)، ويمكننا ان ندرس التطورات التي تطرأ على المجتمع من خلال دراسة مقارنة لبعض الأعمال «الفنية» الشعبية التي أحرزت شيوعاً. ويمكننا ان نرصد تصاعد معدلات الحداثة المنفصلة عن القيمة من خلال الدراسة المقارنة لهذه الأعمال، ولا شك أن انفصال القيمة عن جوانب كثيرة من حياة الإنسان يؤثر كثيراً في رؤيته وتوقعاته من نفسه ومن الآخرين وفي سلوكه اليومي»…
بعد هذه المقدمة التي هي الصفحة الأولى من عشرين صفحة، كتب المسيري عن ثلاثة موضوعات: الأول تأملات في «الواد التقيل» و«القلب الكاروهات». والثاني: بين أحزان فاتن حمامة وأفراح المعلم عماشة. والثالث: الفيديو كليب والجسد والعولمة، إن الدكتور المسيري نموذج فريد يجمع بين العمق الفكري والقدرة على التحليل والغوص إلى الجذور وامتلاك خريطة تصورية واضحة المعالم لتطور الفكر الإنساني لاسيما عصر النهضة والتنوير والحداثة وما بعدها… ويميزه عن غيره الاقتدار على ابتلاع الواقع بعلاقاته المشتبكة غير غافل عن سلوك المواطن البسيط وأصحاب الهموم الصغيرة ثم يعطي رؤية فيما يحصل من تفاعل بين عناصر التأثير والتشكيل الثقافي للناس، زد على ذلك انه نزل من برج الفكر المثالي المتربع على مكاتب المؤسسات الثقافية المرموقة إلى الشارع وتحرك مع الجماهير ليقود حركات النقد والاصلاح غير العنيف… الذي ذكرني بمقالته عن أثر الثقافة الشعبية في وعي الناس وضرورة رصدها ودراستها تلك الرسالة التي تتداولها الناس عندنا في الكويت وهي عبارة عن عدة أبيات شعرية «شعبية» يزدري كاتبها ببعض القبائل والعوائل ويرفع من جانب آخر عدداً من العائلات التي لا تتجاوز أصابع اليدين، على أنهم أهل الكويت بحق والحريصون على البلد ومستقبله. ويبدأ قصيدته الهزيلة بقوله: «ياكويتنا صرتي لنا ضيق وأحزان … من عقبنا شاخوا قصار اليماني» إلى آخر الكلام الفارغ… والأبيات اساءة ليس فقط للذين صرح بذمهم، بل هي اساءة للعائلات التي أثنى عليها، لأن تلك العائلات لا يشرفها ان يمدحها عقل متخلف يمارس الجاهلية الأخلاقية ويلوك قيم الوثنيين.
ان الأخ الذي بعث لي الابيات عبر الهاتف الجوال رجاني ان أعلق عليها وأحذر من آثارها على نسيج المجتمع وكرامة الناس… انني قرأت بحوثاً كثيرة عن التعصب والتحيز سواء ما جاء في عموم كتب علم النفس الاجتماعي أو ما طبعته عالم المعرفة في سلسلتها او بحث الدكتور عبدالرحمن الأحمد في مجلة عالم الفكر، الخ… ولكني أريد من المفكرين والباحثين الذين نتعلم منهم ان يسلكوا نهج الدكتور المسيري الذي لا يكتفي بالتأسيس النظري للمشكلات الفكرية والاجتماعية وانما يميزه ضرب الأمثلة الواقعية فتقرأ له مقالات رصينة عن «الماكدونالدز» والـ«تي شيرت» والأغاني الشعبية… وأظن ان الموبايل الذي صار بيد الجميع يستحق منا الالتفات لكل ما يتبادله الناس من رسائل لاسيما التي تأخذ طابع الظرافة وهي ملغومة بالطائفية والقبلية والفئوية وغير ذلك من قيم الجاهلية الأولى.
د.محمد العوضي